مريم الثانية

             من رواية "مريم الثانية"  

                   "أنا أكره الموت" 


يالا سخرية القدر ، أأموت أنا تلك الميتة الخسيسة ، قالتها وأسلمت نفسها لعذرائيل ؛ ليفعل بها ما يفعل ، وفي اليوم التالي طرق "جلال" الباب ، حيث لا مجيب ، فطرقه بشدة حتى انتبه الجيران ، وتجمعوا معه أمام الباب ، فدفعه أحدهم بقوة ، فإذا بـ "وفاء" جثة هامدة ، ويدها ممدودة نحو الباب ، سرعان ما اتصل آخر بالشرطة ، والتي جاءت وقامت بدورها بالمعاينة المبدئية ، وطلب  الضابط من الجمع ضرورة الانصراف ، وعدم ملامسة أي شيء ، حتى يتثنى للنيابة العامة ومن ثم الطب الشرعي القيام بدورهما ، وتحديد ما إذا كانت هناك شبهة جنائية وراء الحادث أم لا ، خاصة أن الدماء في كل مكان ، وانصرف الجميع إلا "جلال" أخو الفقيدة ، والذي جلس على أحد كراسي الصالة ، ممسكًا رأسة بيديه ، وأحيانًا يخبط بها على رأسه ، قائلًا : أنا السبب ... أنا السبب ، لماذا لم آتِ بالأمس ، كان من الممكن تأجيل ذلك المشوار اللعين .

جاء في تقرير الطب الشرعي ما يلي : قامت الفقيدة التسعينية من مرقدها بغرفة نومها ما بين الساعة الحادية عشر مساءً إلى الساعة الثانية عشر من مساء أمس ، وتوجهت إلى المطبخ حيث الثلاجة ، والتقطت زجاجة ماء بارد ، وفي طريق عودتها تعثرت إحدى قدماها في سجادة الصالة ، فسقط جسدها على الأرض ، وسقطت من يدها الزجاجة و تهشمت وتناثرت  إلى أجزاء متفاوتة الحجم ، و نتيجة سقوطها حدث كسر مضاعف بقدمها اليمنى ، حاولت النهوض فلم تستطع ، فاضطرت إلى الزحف تجاه الباب ، علها تجد من ينقذها ، وأثناء زحفها لم يرحم ضعفها وشيخوختها ذلك الزجاج المتناثر عديم القلب ، وبطش بكامل جسدها ، وعاث فسادًا بما طاله من لحمها ، وأجهزت عليها تمامًا تلك الزجاجة المدببة التي اخترقت بطنها ، وبدأ النزيف القاتل اللعين ، ولم يمهلها حتى الوصول إلى الباب  الذي كان ملاذها الأخير ، وطريق نجاتها الوحيد ، فقد فقدت الكثير من الدماء أثناء زحفها ، ولم تشعرها رغبتها في التمسك بالحياة من وخز بل وتقطيع شظايا الزجاج المتناثرة لكامل جسدها ، إن لسيلان الدماء الساخنة لسطوة  بل ومهابة تفقد صاحبها الاحساس بها ، كما لو كان سارق محترف يسرق منا العمر ، وخلص التقرير أنه لا توجد شبهة جنائية خلف ذلك الحادث ، وأن الوفاة تمت مصادفةً ، أو لنقل قضاءً وقدر .

تألم جميع السكان من طريقة موت "وفاء" ونقموا على تلك الزجاجة القاتلة ، حتى أن معظمهم استبدل زجاجات الماء المصنوعة من الزجاج بتلك المصنوعة من البلاستيك ، خشية أن يتكرر معهم ما حدث للسيدة الطيبة الحنونة "وفاء" ، فلترقد روحك الطيبة في هدوء وسلام يا "شهيدة الزجاج" .


أما "مريم" جارة "وفاء" اللصيقة فقد كان لها رأي آخر مختلف في تلك الحادثة الأليمة ، فقد قررت هجر ومغادرة شقتها للأبد ، ليس خوفًا من ظهور "عفريت" لـ "وفاء" ، إنما خوفًا من أن يحدث لها ما حدث لـ"وفاء" ، ولم لا وهي السبعينية الوحيدة أيضًا ، بل إن "وفاء" كانت محظوظة بتفقد أخيها الأصغر لها بصفة شبه منتظمة و متكررة ، ولما تأخر يومًا واحدًا حدث ما حدث ، أما "مريم" فليس لها أخوة يزورونها ، وإن حدث و زارها أحد أقاربها فيكون على فترات متباعدة كفيلة بتحلل جسدها قبل أن يكتشف موتها أحد .


أبناء "مريم" هما : "مايكل" و "كارولين" ، والاثنان هاجرا إلى "أمريكا" ويعملان هناك منذ عشرين عامًا تقريبًا ، حيث يعمل "مايكل" مهندسًا للبرمجيات بشركة "مايكروسوفت" ، أما "كارولين" فهي طبيبة بشرية ، والاثنان يحملان الجنسية الأمريكية ، وكانت "مريم" تزور أبنائها كل عام ، وتمكث معهما ثلاث شهور كاملين ، لكنها هذا العام وقبل وفاة "وفاء" قررت عدم الذهاب لأمريكا ، فصحتها لم تعد تساعدها على الحركة الكثيرة أو المشي أبعد من الذهاب للحمام في آخر الشقة ، فحدثت نفسها : كيف تتحملني زوجة ابني ؟ ، وما ذنبها أساسًا في أن تحملني أو تساعد في حملي ، فأنا ولأسباب غير معلومة يقترب وزني من المائة والعشرين كيلوجرام ، وهذا وزن عجيب وغريب ، وقد ذلت قدماها ذات مرة وهي تنزل من على السرير ، وعانت معاناة شديدة حتى استطاعت القيام من تلك الوقعة ، و منذ معرفتها تفصيلًا بملابسات قتل زجاجة الماء لـ "وفاء" وهي حازمة أمرها ، متوكلة على "يسوع" أن لا تعود لتلك الشقة في الدور الرابع مرة أخرى ، من يضمن لها في الوقعة الثانية عدم تكرار ما حدث لـ"وفاء" المسكينة ؟ .

اتصلت بدار "ربيع العمر" وأمرتهم بارسال سيارة تحملها إليهم ، بعد أن اتفقت مع ابنائها عبر الهاتف ، وأقنعتهم أنها هي من اختارت ذلك بمحض إرادتها ، وأنها سوف تحظى بالرعاية والاهتمام الكافيين ، وأنها لا قدر الله إن وقعت ، ستجد على الفور من ينقذها ، فالموت يحاصر المدينة ليل نهار ، يصطاد العجائز الوحيدات بأيسر وأتفه طرق الصيد ، دعوني احتمي بقومِ ولو مستأجرين ، عساهم أن يؤجلوا لحظة موتي ، أو على الأقل يجعلوها مبررة ومسببة  بأسباب طبيعية و منطقية ، فأنا أكره الموت ، ويبدو أنه يبادلني نفس الشعور .




تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

Biography

فتى الجنوب (أحمس الأول)

"قطة المطار" - قصة قصيرة