"قطة المطار" - قصة قصيرة
كانت بينهما علاقة ليس لها مثيل ، لا تشبه أيًا من العلاقات ... لا هي بين بشرٍ وبشر، ولا بين إنسان وحيوان. بل علاقة فيها شيء من العِشرة، وشيء من الحب، شيء من الذوبان في الآخر، شيء من التواطؤ الهادئ على أن الحياة دون الآخر لا معنى لها، لاشك كان ما بينهمًا به كثيرًا من الغموض.
كان إذا عاد للبيت، تجدها على عتبة الباب كأنها الحنين نفسه وقد تَجسَّد. تهرول نحوه، تلتف حول قدميه، وتطلق مواءً لا يشبه الجوع، بل يشبه العتاب الدافئ. وكان يربّت على رأسها كمن يطمئن قلبًا، لا فروًا، ها أنا قد عدت يا حبيبتي،تمد جسدها على صدره حين يتمدد، وتدفن رأسها أسفل ذقنه، ويغفو هو على أنفاسها… وكأنها معشوقته لا قطته.
وحين جاء يوم السفر، لم تكتفِ العائلة بوضعها في ركن، بل حملوها معهم إلى المطار—كأنهم يدرون أن هذا الكائن لن يحتمل الفُقد وحده. جلست في حضن الأم، بعينين واسعتين تتابع وجهه، وتحاول أن تحفظ قسماته جيدًا، كأنها تخزّنها للصبر القادم.
وحين ناداهم النداء، وقف، ابتسم، لوّح… ولم تدرِ القطة أن هذه المرة لن تكون كالمرات السابقة.
نسوها.
في المطار، بعد أن غابت الطائرة، بقيت وحدها. بحثت عن رائحتهم، عن صوته، عن موطئ قدمه، عن أي ظلٍّ منه. لكن لا أحد.
ثم بدأت الرحلة—لا إلى بيت، بل إلى العراء.
قطط الشوارع لا ترحم. بعضها يعضّ من الجوع، وأحيانًا من الغيرة، وبعضها من قسوة تعلمها من البشر. وكانت هي "نظيفة"، مختلفة، غريبة. وكل ما هو غريب في الشارع يُضرب أو يُرعب أو يهان.
ظهر عنتر.
ذلك القط الضخم، بعينٍ مشروخة وذيل معقوف، اعتاد فرض سلطته على الجميع. راودها عن نفسها، رفضت. عرض عليها الطعام، الأمان، المأوى. لكنها رفضت ، كانت تنتظر… كانت على عهد مع صاحبها.
لم يتحمّل الرفض، ففكر ودبر ، وتوعد وتجبر ، فصنع منها غنيمة. بمساعدة قطة تُشبهها في الهيئة، وتخالفها في الجُبن، دبّر لها خيانة. دعتها إلى مأوى مؤقت غلظت لها الأيمان أنه آمن، ولا يستطع المدعو عنتر الوصول إليه، ثم تركتها وحدها. وفجأة، ظهر من العدم عنتر فانقضّ على المسكينة. قُيّدت بمخالب مارد، وكُتم مواؤها البريء للأبد، اغتصبها بلا رحمة ذاك الوغد الشقي في ظلام لا يرى فيه أحد سوى الخذلان.
ومن بعدها… لم تعد كما كانت.
تمشي بخوف، تنام بعين واحدة، ولا تأمن أنثى أو ذكرًا. ومع كل ذلك، كانت تقف كل يوم على سور المطار، ترقُب الطائرات، وتُنصت لصوت هبوطها كأنها صلوات. تذهب إلى بوابة القادمين، تمشي بين الأرجل، تشمّ الحقائب، تبحث عن عطرٍ تعرفه.
تمرّ السنون، ويذوب الجسد. يبهت الفرو. تضيق العين. يضعف البصر، وتظل هي… تنتظر.
وفي يومٍ غائم، طائرة تهبط. والناس تخرج، وقلبها يخرج معهم.
رأت خيالًا من بعيد. لم تعد تبصر بوضوح، لكن الطيف… الرائحة… الخُطى… كل شيء فيه صرخ بداخلها: هو.
قفز قلبها من مكانه. وتقدمت—بخطوات مرتجفة، مشتاقة، دامعة.
اقتربت… همّت أن تقفز بين ذراعيه…
لكنه كان يحمل قطة أخرى.
بيضاء، صغيرة، بكِر… لا تعرف الألم.
تسمرت.
تخشبت قدماها، وتجلّط الدم في عروقها.
لم تحتمل. القلب الذي انتظر، القلب الذي اغتُصِب، القلب الذي عذبته ذاكرة المطاردة والخذلان، توقف بهدوء، وبلا مواء.
هكذا، قررت أن ترحل دون أن يشعر بها أحد.
سلام لروحك للأبد.
جميلة جدا قصة قصيرة لكن فيها الكثير من المشاعر يارب من أحسن لأحسن
ردحذفألف شكر ، تحياتي للذوق الراقي .
حذف