أنا وهي ... والليل



أنا كائن ليلي...

أرتدي قميصي الأسود وأُطفئ الأضواء طقسًا، أتحول بعد منتصف الليل من بشر عادي إلى شيء آخر… نصفه كاتب،

ونصفه… مجنون بوَهم الكتابة.

كل ليلة، حين يرخي الليل سدوله،

وتنسحب الأرواح الثقيلة من الفضاء،

تأتيني امرأة شقراء، لعوب، متفجرة الأنوثة، لا تشبه إلا الخيال حين ينفلت من قبضتي.

لا أعرف من أين دخلت، ولا متى فُتح لها الباب الموصد بإحكام.

لكني أراها… كل يوم.

بنفس الثوب… نفس اللمعة في عينيها… ونفس الحكاية الغامضة.

مرة تجلس على فخذي، مرة على طرف مكتبي، تتدلل، تداعبني، تتجرأ،

تتحرّش بي أحيانًا كمن يلعب بالنار…

ثم حين أصل لذروة الفوران، تسحبني للخلف، تهدّئني…

كمن يسحب القدر عن نار أوشكت على الانفجار.

أتعجب. أتعصّب.

أقول لها:

"يا امرأة، ما بالكِ؟ ما غرضكِ من كل هذا؟"

تضحك…

بصوت يقطر إغراءً وتناقضًا،

وتقول:

"أريدك أنت… بالتحديد، أريدك كلك، لكن لي شرطًا واحدًا."

قلت، متوهجًا:

 "آمري يا جميلة الجميلات."

قالت وهي تهمس في أذني كمن يُلقي تعويذة:

"اكتب عني…دع العالم يعرفني من خلالك."

قلتُ، مرتبكًا:

"لكن… أنا لا أعرف اسمك!"

اقتربت، وضعت أناملها على شفتيّ،

وقالت: "اسمي ليس مهمًا.

أنا… الوحي.

أنا إلهامك.

أنا تألقك.

أريد قلمك… يشق لي طريق الوصول،

يرسم لي خريطة العبور."

ضحكتُ بخبثٍ خفيف،

وقلت:

"لكني أملك قلمًا آخر، كاد أن يجف حبره من قلة الاستخدام!"

لأول مرة، احمرّت وجنتاها كأنها تملك قلبًا، وقالت بخجل:

"خلّينا في القلم الحقيقي…ونفّذ الشرط بلا مراوغة."

وبدأنا...

أنا وهي… والليل.

تارة تملي علي، وتارة أعترض، أعدّل، أتهكم، فنضحك معًا، ثم نكسر القواعد،

نتطاول على اللغة، نستبيح المجاز،

ونترك علامات الترقيم تنتحر على أطراف الورق.

ثم تدنو…

وتنتشي حين تقرأ سطرًا صلبًا.

فتدوخ.

وأنا… أخطف قبلة من ثغرها الناري المرسوم.

تفيق.

تغضب.

تسوق الدلال كسيدة تعرف أنها مطلوبة.

أدلعها، أرجوها، أحايلها، ترق من جديد، تبتسم… وتقول:

"هيا… نكمل ما بدأناه."

يقترب الفجر، يتوقف القلم، بل ينتصب.

أقول لها:

 "الآن جاء دوري، فعلتُ ما أردتِ…

كتبت، أبدعت، نزفت…

فهل توفين بوعدك؟"

تبتسم.

وتقول: "ها أنا ذا…"

تخلع كل شيء.

تقف عاريةً كـ"نصٍّ مكتملٍ في آخر الليل"، وتستلقي فوق سريري.

قالت: "ابْرِ قلمك."

قلت: "هو مسنون."

اقتربت…

ارتميت عليها كمن يهجم على صفحة بيضاء بالعطش.

ثم…

ثم لا شيء.

صحوت،

فوجدتني أحتضن مرتبتي.

لا هي كانت هنا، ولا أعرف من أين أتت،

ولا كيف رحلت.

لكنها ستعود، كالعادة.

حين يرخي الليل سدوله، ويشتاق القلم إلى البكارة.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

Biography

فتى الجنوب (أحمس الأول)

"قطة المطار" - قصة قصيرة