ولا كل "الباميات"
(ولا كل إللي اتقمعت بامية)
ما الذي جعلني أفتح الثلاجة تحديدًا في هذا التوقيت؟
هل كانت نداءات البطن أم صرخات الروح؟
لا أدري… لكنني وجدتها هناك، علبة بلاستيكية بغطاء غير محكم، بها باميا يبدو أنها عاشت أكثر مما ينبغي في وحدتها.
نظرت إليها نظرة حانية، كأنني أعتذر لها على الإهمال، ثم همست:
"أنا آسف، بس هانقذك النهاردة."
غسلت وجهي دون نية حقيقية للاستيقاظ،
ثم توجهت إلى المطبخ كمن يُنفذ مهمة ثأر قديم.
أخرجت البصلة، فرمقتها…
هل أبكي عليها أم أبكي بها؟
ثم قطعتها كما تقطع الأيام في دفاتر الذكرى.
وضعت الزيت، وانتظرت "الطشطشة" المقدسة،ثم نزلت بالبصل…
صوت البصل في الزيت له رهبة، كأنه أول اعتراف في جلسة تحقيق،
وبعده الثوم، ثم الطماطم…
أيوه الطماطم، صغيرة ومستديرة زي دمعة حزينة نزلت مرة من عيني وأنا بفكر في اللي كان.
ثم جاءت اللحظة الفارقة…
فتحت كيس الباميا،
وقبل أن أنزل بها في القدر، سألت نفسي سؤالًا وجوديًا:
"هل الحياة تستحق أن تُطبخ؟ أم تُؤكل نيّة؟"
نزلت بالباميا كمن ينزل آخر ورقة في لعبة “كوتشينة” خاسرة،
وقلبت الخليط بقلب نصفه في الطبيخ والنصف الآخر في الذكرى.
بعد ما سبكت الخليط، بدأت أفكر،
ليه الناس بتستصغر الباميا؟
ليه لما نقول “بامية” يضحكوا؟
مع إن البامية دي زي الناس الهادية…
مش بتعمل دوشة،
بس تقعد في القلب كتير.
قعدت على الأرض، زي ما كانت أمي بتقعد، فرشت الجريدة، وسخّنت رغيفين، ومديت إيدي على الطبق.
أول ملعقة كانت كأنها “تاريخ”، مش أكل.
ريحة الثوم، وطعم الكسبرة الناشفة،
وحنيّة الزيت عاللسان، قالتلي:
"اتفضل يا بُني… إحنا كنا مستنيينك."
في اللحظة دي، شفت أمي وهي بتضحك، وأبويا وهو بيهزر،
وإخواتي وهم بيتخانقوا على القطعة اللي فيها العضمة.
ما أوجع الذكرى لما تيجي على ريحة أكل.
كأني مش بأكل ، كأني صفّيت الوجع في طبق، وشربته بالمعلقة.
وأقسمت بعدها أن كل الباميات اللي فاتت ما كانتش باميا، دي كانت تجارب طهي فاشلة، النهاردة…
أنا طبخت نفسي
لما خلّصت، غسلت الصحون بهدوء،
ومسحت الرخامة وكأني بمسح تعب سنين.
رجعت قعدت في الصالة، وشغلت لمبة خفيفة، وقعدت أبص في السقف وأسأل:
"هو أنا بطبخ؟
ولا بحاول أفتكر؟
ولا بقول لنفسي: أنا لسه هنا، ولسه عايش؟"
وبس…
هنا خلصت البامية،
بس ما خلصتش الحكاية.
لأنك أول ما تحط راسك على المخدة،
هاتسمع السؤال جاي يهمس:
"هتطبخ إيه المرة الجاية؟
ولا كل الباميات كانت كفاية؟"
تعليقات
إرسال تعليق