خالد والكلب



خالد رجل طيب، عاش عمرًا مع زوجته الدميمة "أم الخير"، لكن ما نادها يومًا بهذا الاسم، كان يسميها على طريقته:

"أم الشر".

وعلى طريقة اسمها… ختمت حياتها معه.

استأجرت بضع لصوص، وحرّضتهم على سرقة زوجها، ليضربوه ويسرقوه وينفضّوا من حوله كما تنفض الجرذان من حفرة نار.

أوسعوه ضربًا، ولحسن حظه لم يجدوا معه شيئًا، فتركوه مدرّجًا في دمه وهربوا،

وبقي هو في منتصف الطريق بين الصدمة والخذلان.

وحين استفاق، وقف، طلقها، غادر، بلا رجعة.

---

ذهب إلى المدينة، استأجر شقة في الدور الثالث من عمارة متهالكة في حي شعبي ضيق، كثير الأزقّة وقليل الهواء.

وكان يظن أن القهر هناك يُخفف بصوت بائع العيش، أو بكوب شاي ساخن على الرصيف، لكن ما وجده… كان مختلفًا تمامًا.

---

كل فجر، وبعد لحظات قليلة من انطلاق صوت الأذان، كان يسمع عواء كلب.

عواء متواصل، كأنه لا يعترض… ولا يؤيد، بل يرافق فقط.

في البداية لم يأبه، لكنه بعد أيام… بدأ يشعر أن هناك ما "ليس طبيعيًا" في هذا العواء.

---

ذهب يسأل أحدهم، رجل بلحية ناعمة، وصوت هادئ اسمه الشيخ مرزوق،

فأجابه بثقة: "بيردّد مع الأذان يا أبله."

رفع خالد حاجبيه دهشة، وأسرّها في نفسه: "ابله؟"

لكنه لم يعلّق.

انسحب كمن يشكّ في أن سؤاله نفسه خطيئة.

---

في الليلة التالية، راقب توقيت العواء.

لاحظ أن الكلب يبدأ بعد بداية الأذان بلحظات، ويتوقف في منتصفه تقريبًا.

قال لنفسه:

"يعني بيردد النصف التاني سرًا؟!"

ثم بصق على الأرض: "والله يا شيخ مرزوق… الأبله الحقيقي هو أنت."

---

لم يهدأ، ذهب ليسأل آخر.

قال الرجل بنبرة العارف ببواطن الغيب:

 "الكلب يا عمنا… بيشوف حاجة من اثنين :  إما ملك الموت… أو عفريت.

حاجات ما تتشافش بالعين… لكن تتشّم بالكلب."

ابتلع خالد ريقه، شعر بغصة،وقال لنفسه: "أنا ساكن في حي العفاريت والملائكة؟!

هو ده الحي الوحيد الموصل للآخرة؟

ده ملك الموت بييجي كل يوم كأنه نازل مولات؟"

ثم همس في خوف: "ما يمكن في يوم ييجي… وما يلاقيش حد غيري؟"

---

في إحدى الليالي، استيقظ فجأة،

انتظر لحظة العواء، ولما سمعه، قال في سره: "طيب… فين العفريت؟

فين الزنزانة اللي بيتقبض فيها الروح؟"

لا حركة،

لا موت،

لا صويت نساء،

لا ملائكة،

ولا شياطين.


هدأ قلبه قليلًا.

صلّى، وقال صباحًا: "حسبي الله ونعم الوكيل فيك يا شيخ رمضان، يا بتاع الأعمال…

نشفت دمي، ربنا ينشف دمك."

---

لكن العواء استمر… والفضول بقى قاتل.

ذهب هذه المرة إلى خبير في لغة الكلاب، رجل يدعى ريكو، يعتني بكلاب ضخمة، يُحبها… ويبيعها ويتربح منها .

أجابه بثقة العارف:

 "الميكروفون العالي بيزعج الكلب.

بيبقى نايم… يقوم مفزوع…فيعوي.

بس كده."

قال خالد:

"العلم نور."


لكنه حين عاد لمراقبة الكلب، أعاد ترتيب المشهد: 

الأذان يبدأ

الكلب يعوي

يتوقف فجأة

ثم تمر دقائق قبل الإقامة

ولا يعوي مرة أخرى.

قال في نفسه: "يعني كان نايم، وصحي، واتضايق، وسكت، ونام تاني،ووقت الإقامة… ما انزعجش؟

طيب يا ريكو يا بتاع الكلاب…

حسبي الله ونعم الوكيل فيك برضو."

---

أخيرًا،

ذهب لرجل عجوز، لا يُفتى عنده شيخ، ولا يفهم الناس لغته أحيانًا.

قال له الرجل وهو ينظر إليه من فوق لتحت: "الله أعلم بمخلوقاته، سيبها على الله، ومتشغلش بالك بالحاجات دي.

أنت بتفكر في أمور تافهة، ولغة كلاب إيه وعلم إيه؟ هذا علم لا ينفع"

قال له خالد:

"أنا مش بفكر، بس ده واقع، كل يوم بيصحيني.

أنقل من الشقة؟" 

ضحك العجوز أخيرًا:

"حتى لو رُحت شقة تانية، سيظل يطاردك عواء الكلاب.

لأن التافه…

هو اللي بيسمع كل حاجة، مش الكلب."

وأنت رجل تافه ، تتحدث في أمور لا تعنيك .

---

خالد،

رجل طيب، لكنه خائف، ومتردد، ويتوه بين فتاوى المشايخ، وتفسيرات العلماء،

وأصوات الكلاب.

ربما كان الكلب ينبح عليه، لا على الأذان.

وربما…

كان خالد نفسه هو العواء.

---

هل يكتفي الآن؟

أم يسأل كلبًا جديدًا في حارة أخرى؟

من يدري…

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

Biography

فتى الجنوب (أحمس الأول)

"قطة المطار" - قصة قصيرة