كلام في علم الكلام | علي محمد علي



> ✍️ في هذه المقالة أقترب من اللغة، لا كمجرّد أداة تواصل، بل كبنية فكرية، وميدان صراع بين المعنى واللا معنى.

أتناول أنواع الكلام التي تمرّ بأذني وأذنك يوميًا ،  من الكلام “الزبالة” كما أسميه، إلى الكلام البليغ، مرورًا بالممل والتقليدي.

هل اللغة وسيلة للبناء؟ أم للهدم؟

وهل المعنى شرط لبقاء الكلام حيًّا؟

في هذا النص، أضع أمام القارئ تصنيفًا جريئًا لأنواع "الكلام"، وأدعو الجميع لإعادة التفكير في ما نسمعه، وما نقوله، وما نكتبه.

اقرأ المقال كاملًا… وأعد حساباتك مع لغتك.


 المقال :

"كلام في علم الكلام" 


الكلمة وحدة بناء الكلام ، وهذا البناء له ضوابط كثيرة ، أستطيع تلخيصها أو إلقاء الضوء على أبرزها كما يلي : 


- القواعد ، ونقصد بها مدى التزام المتحدث بالقواعد النحوية المنظمة للكلام ، وإن كان في اعتقادنا أنه معيار شكلي .

- التركيب ، ونقصد به مهارة المتحدث في ترتيب الكلمات ترتيبًا منطقيًا ، متسلسلًا ، وهذا في اعتقادنا معيار جوهري .

- المعنى ، إن هدف أي متحدث من كلامه هو توصيل معنى معين للمخاطب ، فإن فشل في ذلك ؛ فقد عطل أو دمر عملية الاتصال من أساسها ، ونراه معيارًا جوهريًا أصيلًا .

سأكتفي هنا بتلك المعايير الثلاثة لتصنيف بعض أنواع الكلام الذي تتلقاه أو تلتقطه أذناي بشكل يومي من هنا أو هناك .


- الكلام الزبالة أو المسخرة ونستطيع حذف (مس) ، هذا النوع من الكلام يطلقون عليه لفظ "اللغة" و لعل الأخ المرحوم "محمود عبد العزيز" رحمة الله عليه ، كان من أول المبشرين به في فيلم "الكيف" ، هذا النوع من الكلام يمثل خطرًا داهمًا على بقاء و استمرار اللغة السليمة بين الناطقين بها ، وبالطبع أنا لست ضد التجديد واستحداث طرق أو مفردات جديدة لأي لغة وفقًا لمتطلبات العصر ، لكن هذا النوع ليس تطوير وليس تجديد ، إنما يحمل معاول الهدم ويرفعها في وجه المجتمع ، ويعود بنا إلى عصور ما قبل اللغة ، والدليل أنه غير مفهوم للعامة ، وكأن من يتحدثون به فقط هم من يملكون شيفرته ، وغيرهم لا يفهم ، إن مقدار الجرم الذي يرتكبه هؤلاء هو العودة بأنفسهم وبالمجتمع إلى البدائية وفقر الكلمات ، نعم هم مجرمون باعترافهم كما ويفضلون أن يطلقوا على أنفسهم لفظ "السرسجية" ، معظمهم جهلاء ، أميين أرادوا أن يتميزوا وينفردوا في شيء ، أنظر إلى هذا الكلام الذي سأسوقه لك كما هو ، كما سمعته من مصادره الخام : 

"بص يا زميلي أنا جايلك راكب السخان وكنت فاكرك فنان طلعت لامؤاخذة قفص وشكلك هاتترفص المصلحة مش راكبه عليك وده أنا شايفه في عنيك شهادة وتحقيق" 

لاحظوا  إني لم أضع علامات ترقيم ، ولا فواصل ولا محددات لهذا الكلام ، فهو يقال هكذا دفعة واحدة ، وراء بعضه ، وعلى الطرف الآخر الرد والدفاع عن نفسه بنفس الأسلوب والطريقة ، فانظروا ماذا قال : 

"لا بقه داخل علينا داخله مش بتاعتك  بس لو تقولي مين اللي باعتك احنا تمام التمام يازميلي وراكبين على أي سلام ولو مش شايف يبقى باين عليك خايف" 

المعيار الوحيد المحقق هنا هو "السجع" المقيت ، السخيف ، أما معيار "القواعد" لايوجد البتة ، أما معيار "التركيب" فهو هنا ميت  غير موجود ، فتركيب تلك الجمل شاذ وغريب ، أما المعيار الثالث وهو "المعنى" "فاسلملي ع الترماي" ، للعامة هو كلام غير مفهوم ، ولابد للمهتم أن يأخذ كورسات تعليمية في تلك اللغة على يد أساتذة كبار أمثال "الليمبي" و "سيد سرنجة" ، يعني نستطيع القول بكل أريحية هذا النوع من الكلام إن افترضنا جدلًا أنه كلام ، ليس له شكل ولا مضمون ، إلا عند فقط من يخترعون شيفرته .


- الكلام الممل أو الدوار ، هذا النوع يظل صاحبه يحدثك به لساعات وأحيانًا لأيام دون أن تخرج منه بشيء ، نعم هذا بعينه هو ما نطلق عليه "الرغي" الفاضي ، لا ينوب المتلقي منه غير الصداع ، والتعاطف أحيانًا مع صاحبه ، فنحن نفترض أن صاحبه يريد توصيل شيئًا ما لنا لكنه غير قادر على ذلك ، مع شعور في الخلفية يتسلل إلينا من تكرار نفس الكلام أن المتحدث هذا صادق ، المشكلة هنا ليست في الصدق ولا الكذب ، المشكلة تكمن في إمكانيات المتحدث العقلية ، لماذا نجبر أحيانًا على سماع هذا الكم الكثير من الكلام دون الوصول لمعنى واضح ؟ ، فكما ترون يبدو ان هذا النوع يلتزم بالنحو والقواعد الشكلية ، كما يلتزم نوعًا ما بالتراكيب ، فهو مسلسل لكنه معاد ومكرر ، فيفتقد للمعيار الثالث والهام بل والجوهري وهو "المعنى' .

هذا تمامًا ما اسميه "الحرق في الفاضي" ، اللافت أنه ربما يأتينا من أشخاص عزاز كأبنائنا الصغار أحيانًا ، أو الآباء والأمهات حينما يعانون من أمراض الشيخوخة ، لهذا الحد فهو مقبول ، ونحن نلتمس لهم الأعذار ، لكن أن يأتينا من زوجاتنا أو إخوتنا أو أصدقائنا في العمل فهذا شيء سخيف ومقيت جدًا ، كنت أعرف إحداهن كانت تستلم أذني من أول الليل حتى الساعات الأولى من الصباح في هذا النوع من الكلام الدوار ؛ فتخلصت منها .

وإليكم نموذجًا مما كنت أسمع طوال الليل : " الحب يعني أمان واستقرار ، فلولا الأمان ماوجد الحب ، ولولا الاستقرار ما وجد لا الحب ولا الأمان ، فأنا أحبك معنى هذا أني أعطيك الأمان ....." قابل يا سيدي وهانفضل على هذا الحال من المنطق الدوار من ثلاث لأربع ساعات يوميًا ، المشكلة أني أعمل طوال النهار و أطمع في ساعتين نوم ، إن كانت زوجتك تستخدم نفس النوع من الكلام فلا تضيع وقتك ولا مستقبلك ، أنت الآن عرفت ماذا ستصنع ، وضميري مرتاح تمامًا .


- الكلام العادي ، التقليدي  وهو كلام العامة ، حدوده الدنيا هي الحدود المقبولة للغة ، فهو ملتزم بالثلاث معايير ( قواعد - تراكيب - معنى) وهو غالبًا قصير الجمل ، محدد المعاني لايقبل التأويل ، مثل : "الأجرة ٥ جنيه يا جماعة" ، "أريد ٥ كيلو موز" .... ، أرأيت كل شيء محدد وواضح مع التزام تام بالقواعد النحوية ، فمثلًا لا يعقل أن تسمع " موز كيلو ٥ أريد" ، هذا يمكن أن تسمعه في النوع الأول الذي تحدثنا عنه ، لكن هنا مستحيل .


- الكلام "المُسّحّر" أو "البليغ" ، وهذا كلام الخاصة ، كلام الأدباء والعلماء ، كلام الصفوة ، لسنا بحاجة للتأكيد بأنه ملتزم بكافة المعايير التي ذكرناها ، لكن الجديد فيه أنه يأتي دائمًا بتراكيب جديدة ، وبالتالي تستخلص منه معانٍ جديدة ، هؤلاء حماة اللغة ، وكلامهم حمال أوجه ، هؤلاء أخلصوا للغة ، فأخلصت لهم ، ورفعتهم مكانًا عليًا ، لكن وآه من لكن تلك ، من هؤلاء من يشعوذ الكلام ، يغوص فيُخرج لك معانٍ جديدة كل مرة ، فتبدأ أنت في الشك ، وهذا ما يريده هو لك في الأساس ، فأي نص ، أي نص مهما كانت أقدميته أو قدسيته ، قابل للتأويل والتحليل مع مرور الزمن واختلاف وتغير آليات المعرفة ، وتلك هي العبقرية الحقيقية من وجه نظري ، لا شيء جامد ، لا شيء يقف في مكانه ، كلنا ماضون ، وذاهبون ، ننتج نصوص جديدة ، وتؤثر فينا نصوص قديمة ، والفيصل أو الحاكم بيننا هو العقل ومدى استيعابه وامتصاصه للنصوص ، وإعادة فرزها بثوب جديد ، أو قل معانٍ جديدة .


علي محمد علي


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

Biography

فتى الجنوب (أحمس الأول)

"قطة المطار" - قصة قصيرة