ولا كل الكبدات
أتذكرون السوق ؟ إنه يقطع طريق عودتي من عملي ، وأثناء عودتي مرهقًا قليلًا رأيت بائع اللحوم يقطع كبدة ويعبئها في أطباق ومن ثم يغلفها ويضعها في ثلاجة عرض ، فنسيت تعبي وإرهاقي وتذكرت إجابة ابنتي الكبرى عن سؤالي الوجودي في مقالي السابق "ولا كل الشكشوكات" فتسمرت قدماي ووقفت أمام البائع شارد الذهن قليلًا ، فبادر بسؤالي : أؤمر يا أبو الأساتيذ ، أجيبلك إيه ؟ فتنبهت وقلت بكام كيلو الكبدة النهاردة ؟ فقال : ١٦٠ جندي بس يا أستاذ ، فتلبستني روح المتمرس العارف بأنواع الكبد وقلت ، ودي مستوردة من أي بلد ؟ قال بلا تردد : برازيلي برازيلي يا أستاذ ، فضحكت وقلت : أكيد كانت بتلعب كورة ، ثم قلت للرجل لما وجدته لم يستحسن أفشتي : طيب يا حاج عبيلي طبق ب ١٠٠ جندي ، ثم أخذت الكبدة ومشيت غير مدرك حجم التوريطة التي ورطت بها نفسي ! وماذا بعد ؟ سرت ولا أنتوي أي شيء ، حتى توقفت قدماي مرة أخرى عند بائع الخضروات إياه ، وأكيد لسة فاكرينه ، هذا البائع المتنمر ، ذهبت و ناوي له على نية ، لكن بمجرد أن رآني تذكرني فابتسم ابتسامة مصرية صافية أطفأت نار نيتي له ، فابتسمت وقلت : إوزن كيلو بطاطس ، فضحك القهقة وقال : إنت لسة فاكرها يا أستاذ من المرة اللي فاتت ، دي شكلها كانت شغلاك أوي ، طيب ردوا إنتم بقه أعمل في الراجل ده إيه ؟ وبطاطس إيه إللي هابات الليل أفكر فيها وتشغلني وأنا بشارك في رسم سياسات ومتابعة تنفيذ عمل إدارة كاملة ، فقلت لنفسي : "اللهم إخزيك يا شوشو" ، وطبعا قرائي الأعزاء يعرفون جيدًا من هو "شوشو" ، فقلت بيني وبين نفسي : لابد أن أغير خطتي مع هذا المتنمر ، فبادرت بالرد : تخيل ما نمتش من التفكير فيها طول الليل ، لدرجة إني حلمت بيها ، فقال مسرعًا : وجاتلك بقه متحمرة ولا متقشرة ؟ قلت : جاتني عريانة ، فانفجر الرجل ضحكًا و سقط من يده كيس البطاطس ، ثم قال : وعملت معاها إيه يا أستاذ ؟ الله يخرب بيتك الراجل عاوز يصعد ويعلي ، قلت : أبدًا أنا لعبت معاها شوية و بعدين كلتها ، قال : بألف هنا وشفا على قلبك يا أستاذ ، إن شاء الله المرة الجاية تجيلك الكوسة ، فنظرت له نظرة أنا نفسي مش عارف معناها إيه ثم تركته وانصرفت ، و هنا تذكرت التوابل فاشتريت منها ووجدتني أتذكر الثوم وحزمة الشبت والكسبرة ، ما هذا ؟ هل كنت طباخًا في حياة سابقة ؟ من أين أتت لرأسي كل تلك الفتوحات ، ربما لأني كنت أراقب أمي جيدًا وهي تطبخ وأنا صغير ، فأمي كانت طهاية من نوع فريد ، يكفي أن تضع يدها في أي أكلة فتتحول إلى سحر و دواء يأخذك في عوالم افتراضية من الاستمتاع بالطعم ، أدامك الله يا أمي على رأسي حتى لو نسيتي قواعد الطبيخ ، الآن ليس لدي أي حجة ، وسرعان ما غسلت وقشرت وقطعت وسلقت ، كل هذا في وقت واحد تقريبًا وبالتوازي ، كما وكنت حريصًا جدًا على نظافة المطبخ حولي ، هكذا تعلمت من أمي ، وبعد دقائق لا أدري طالت أم قصرت بدأت أشم رائحة النضوج ، فقلت هنا كانت أمي تهدأ النار ففعلت ، والرائحة تتوغل وتتسرب داخل وخارج الشقة التي لم يوقد فيها نار منذ زمن بعيد ، فأخذت طبق صغير وغرفت قليلًا مما صنعت ، و سخنت رغيفان وتوكلت وسميت الله ، ما ألذ ما صنعت ، وما أشهى ما جنته يدي ، أكاد أجزم أنها أشهى أكلة أكلتها بعد أكلات أمي و شكشوكة أمس ، ويطل برأسه كالعادة كل مرة نفس السؤال الوجودي الأزلي ، هاطبخ إيه المرة الجاية ؟
تعليقات
إرسال تعليق